فصل: تفسير الآيات (25- 27):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (25- 27):

{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}
{وَبَشّرِ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} والمأمور بقوله {وبشر} الرسول عليه السلام أو كل أحد، وهذا أحسن لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به. وهو معطوف على {فاتقوا} كما تقول يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم. أو جملة وصف ثواب المؤمنين معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين كقولك (زيد يعاقب بالقيد والإرهاق وبشر عمراً بالعفو والإطلاق). والبشارة الإخبار بما يظهر سرور المخبر به ومن ثم قال العلماء: إذا قال لعبيده: أيكم بشرني بقدوم فلان فهو حر. فبشروه فرادى عتق أولهم لأنه هو الذي أظهر سروره بخبره دون الباقين. ولو قال: (أخبرني) مكان (بشرني) عتقوا جميعاً، لأنهم أخبروه، ومنه البشرة لظاهر الجلد، وتباشير الصبح ما ظهر من أوائل ضوئه. وأما {فبشرهم بعذاب أليم} [آل عمران: 21] فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيظ المستهزأ به كما يقول الرجل لعدوه أبشر بقتل ذريتك ونهب مالك. والصالحة نحو الحسنة في جريها مجرى الاسم. والصالحات كل ما استقام من الأعمال بدليل العقل والكتاب والسنة واللام للجنس. والآية حجة على من جعل الأعمال إيماناً لأنه عطف الأعمال الصالحة على الإيمان والمعطوف غير المعطوف عليه. ولا يقال إنكم تقولون يجوز أن يدخل المؤمن الجنة بدون الأعمال الصالحة والله تعالى بشر بالجنة لمن آمن وعمل صالحاً، لأن البشارة المطلقة بالجنة شرطها اقتران الأعمال الصالحة بالإيمان، ولا نجعل لصاحب الكبيرة البشارة المطلقة بل نثبت بشارة مقيدة بمشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ثم يدخله الجنة. {أَنَّ لَهُمْ جنات} أي بأن لهم جنات. وموضع {أن} وما عملت فيه النصب ب {بشِّر} عند سيبويه خلافاً للخليل وهو كثير في التنزيل. والجنة البستان من النخل والشجر المتكاثف، والتركيب دائر على معنى الستر ومنه الجن والجنون والجنين والجنة والجان والجنان، وسميت دار الثواب جنة لما فيها من الجنان. والجنة مخلوقة لقوله تعالى: {اسكن أَنتَ وزَوْجُكَ الجنة} [البقرة: 35] خلافاً لبعض المعتزلة. ومعنى جمع الجنة وتنكيرها أن الجنة اسم لدار الثواب كلها وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب بحسب أعمال العاملين لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنان. {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} الجملة في موضع النصب صفة لجنات، والمراد من تحت أشجارها كما ترى الأشجار النابتة على شواطئ الأنهار الجارية. وأنهار الجنة تجري في غير أخدود. وأنزه البساتين ما كانت أشجارها مظلة والأنهار في خلالها مطردة والجري الأطراد. والنهر المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر يقال للنيل: نهر مصر، واللغة الغالة نهر ومدار التركيب على السعة، وإسناد الجري إلى الأنهار مجازي.
وإنما عرف الأنهار لأنه يحتمل أن يراد بها أنهارها فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة كقوله تعالى: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4]، أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءَاسِنٍ} [محمد: 15]، الآية والماء الجاري من النعمة العظمى واللذة الكبرى ولذا قرن الله تعالى الجنات بذكر الأنهار الجارية وقدمه على سائر نعوتها.
{كُلَّمَا رُزِقُواْ} صفة ثانية ل {جنات} أو جملة مستأنفة لأنه لما قيل إن لهم جنات لم يخل خلد السامع أن يقع فيه أثمار تلك الجنات أشباه ثمار جنات الدنيا أم أجناس أخر لا تشابه هذه الأجناس فقيل: إن ثمارها أشباه ثمار جنات الدنيا أي أجناسها وإن تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلا الله. {مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذي} أي {كلما رزقوا} من الجنات، من أي ثمرة كانت من تفاحها أو رمانها أو غير ذلك، {رزقاً} قالوا ذلك. ف {من} الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية لأن الرزق قد ابتدئ من الجنات والرزق من الجنات قد ابتدئ من ثمرة، ونظيره أن تقول: رزقني فلان فيقال لك: من أين؟ فتقول: من بستانه. فيقال: من أي ثمرة رزقك من بستانه؟ فتقول: من الرمان. وليس المراد من الثمرة التفاحة الواحدة أو الرمانة الفذة وإنما المراد نوع من أنواع الثمار. {رُزِقْنَا} أي رزقناه فحذف العائد {مِن قَبْلُ} أي من قبل هذا، فلما قطع عن الإضافة بنى، والمعنى هذا مثل الذي رزقنا من قبل وشبهه بدليل قوله {وَأُتُواْ بِهِ متشابها} وهذا كقولك (أبو يوسف أبو حنيفة) تريد أنه لاستحكام الشبه كأن ذاته ذاته. والضمير في {به} يرجع إلى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعاً لأن قوله {هذا الذي رزقنا من قبل} انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين، وإنما كان ثمار الجنة مثل ثمار الدنيا ولم تكن أجناساً أخر، لأن الإنسان بالمألوف آنس وإلى المعهود أميل، وإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه وعافته نفسه، ولأنه إذا شاهد ما سلف له به عهد ورأى فيه مزية ظاهرة وتفاوتاً بيناً كان استعجابه به أكثر واستغرابه أوفر. وتكريرهم هذا القول عند كل ثمرة يرزقونها دليل على تناهي الأمر وتمادي الحال في ظهور المزية، وعلى أن ذلك التفاوت العظيم هو الذي يستملي تعجبهم في كل أوان أو إلى الرزق كما أن هذا إشارة إليه، والمعنى أن ما يرزقونه من ثمرات الجنة يأتيهم متجانساً في نفسه كما يحكى عن الحسن: يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بالأخرى فيقول: هذا الذي أتينا به من قبل فيقول الملك: كل، فاللون واحد والطعم مختلف. وعنه عليه السلام: «والذي نفس محمد بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي بواصلة إلى فيه حتى يبدلها الله مكانها مثلها فإذا أبصروها والهيئة هيئة الأولى قالوا ذلك» وقوله: {وأتوا به متشابهاً} جملة معترضة للتقرير كقولك (فلان أحسن بفلان ونعم ما فعل) ورأى من الرأي كذا وكان صواباً، ومنه {وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وكذلك يَفْعَلُونَ} [النمل: 34]. {وَلَهُمْ فِيهَا أزواج} {أزواج} مبتدأ و{لهم} الخبر و{فيها} ظرف للإستقرار. {مُّطَهَّرَةٌ} من مساوي الأخلاق، لا طمحات ولا مرحات، أو مما يختص بالنساء بالحيض والاستحاضة وما لا يختص بهن من البول والغائط وسائر الأقذار والأدناس. ولم تجمع الصفة كالموصوف لأنهما لغتان فصيحتان، ولم يقل طاهرة لأن {مُّطَهَّرَةٌ} أبلغ لأنها تكون للتكثير، وفيها إشعار بأن مطهّراً طهرهن وما ذلك إلا الله عز وجل. {وَهُمْ فِيهَا خالدون} الخلد والخلود البقاء الدائم الذي لا ينقطع، وفيه بطلان قول الجهمية فإنهم يقولون بفناء الجنة وأهلها لأنه تعالى وصف بأنه الأول الآخر، وتحقيق وصف الأولية بسبقه على الخلق أجمع فيجب تحقيق وصف الآخرية بالتأخر عن سائر المخلوقات، وذا إنما يتحقق بعد فناء الكل فوجب القول به ضرورة، ولأنه تعالى باقٍ وأوصافه باقية فلو كانت الجنة باقية مع أهلها لوقع التشابه بين الخالق والمخلوق وذا محال. قلنا: الأول في حقه هو الذي لا ابتداء لوجوده، والآخر هو الذي لا انتهاء له، وفي حقنا الأول هو الفرد السابق والآخر هو الفرد اللاحق، واتصافه بهما لبيان صفة الكمال ونفي النقيصة والزوال، وذا في تنزيهه عن احتمال الحدوث والفناء لا فيما قالوه، وأنى يقع التشابه في البقاء وهو تعالى باقٍ لذاته وبقاؤه واجب الوجود وبقاء الخلق به وهو جائز الوجود.
لما ذكر الله تعالى الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب به مثلاً ضحكت اليهود وقالوا ما يشبه هذا كلام الله فنزل.
{إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْيِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً} أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحي أن يتمثل بها لحقارتها. وأصل الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم، ولا يجوز على القديم التغير خوف والذم ولكن الترك لما كان من لوازمه عبر عنه به، ويجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة فقالوا: أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت، فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على السؤال، وهو فن من كلامهم بديع وفيه لغتان: التعدي بنفسه وبالجار. يقال: استحييته واستحييت منه وهما محتملتان هنا، وضرب المثل صنعه من ضرب اللبن وضرب الخاتم. و{ما} هذه إبهامية وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاماً وزادته عموماً كقولك: (أعطني كتاباً ما) تريد أي كتاب كان، أو صلة للتأكيد كالتي في قوله تعالى:
{فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم} [النساء: 155]، كأنه قال: لا يستحي أن يضرب مثلاً ألبتة. وبعوضة عطف بيان ل {مثلاً} أو مفعول ل {يضرب} و{مثلاً} حال من النكرة مقدمة عليه، أو انتصبا مفعولين على أن {ضرب} بمعنى (جعل) واشتقاقها من البعض وهو القطع كالبضع والعضب. يقال بعضه البعوض ومنه بعض الشيء لأنه قطعة منه، والبعوض في أصله صفة على فعول كالقطوع فغلبت. {فَمَا فَوْقَهَا} فما تجاوزها وزاد عليها في المعنى الذي ضربت فيه مثلاً وهو القلة والحقارة، أو فما زاد عليها في الحجم كأنه أراد بذلك رد ما استنكروه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت لأنهما أكبر من البعوضة. ولا يقال كيف يضرب المثل بما دون البعوضة وهي النهاية في الصغر لأن جناح البعوضة أقل منها وأصغر بدرجات وقد ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً للدنيا. {فَأَمَّا الذين ءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَهُ الحق} الضمير للمثل أو لأن يضرب والحق الثابت الذي لا يسوغ إنكاره يقال حق الأمر إذا ثبت ووجب {مّن رَّبِّهِمْ} في موضع النصب على الحال والعامل معنى الحق وذو الحال الضمير المستتر فيه {وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً} ويوقف عليه إذ لو وصل لصار ما بعده صفة له وليس كذلك. وفي قولهم {ماذا أراد الله بهذا مثلاً} استحقار كما قالت عائشة رضي الله عنها في عبد الله ابن عمرو: يا عجباً لابن عمرو هذا محقرة له. و{مثلاً} نصب على التمييز أو على الحال كقوله {هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءَايَةً} [الأعراف: 73] وأما حرف فيه معنى الشرط ولذا يجاب بالفاء، وفائدته في الكلام أن يعطيه فضل توكيد. تقول: زيد ذاهب. فإذا قصدت توكيده وأنه لا محالة ذاهب قلت: أما زيد فذاهب، ولذا قال سيبويه في تفسيره: مهما يكن من شيء فزيد ذاهب، وهذا التفسير يفيد كونه تأكيداً وأنه في معنى الشرط. وفي إيراد الجملتين مصدرتين به وإن لم يقل فالذين آمنوا يعلمون والذين كفروا يقولون، إحماد عظيم لأمر المؤمنين واعتداد بليغ بعلمهم أنه الحق، ونعي على الكافرين إغفالهم حظهم ورميهم بالكلمة الحمقاء. و{ماذا} فيه وجهان: أن يكون (ذا) اسماً موصولاً بمعنى الذي و(ما) استفهاماً فيكون كلمتين، وأن تكون (ذا) مركبة مع (ما) مجعولتين اسماً واحداً للاستفهام فيكون كلمة واحدة، ف (ما) على الأول رفع بالابتداء وخبره (ذا) مع صلته أي أراد، والعائد محذوف. وعلى الثاني منصوب المحل ب {أراد} والتقدير: أي شيء أراد الله. والإرادة مصدر أردت الشيء إذا طلبته نفسك ومال إليه قلبك، وهي عند المتكلمين معنى يقتضي تخصيص المفعولات بوجه دون وجه، والله تعالى موصوف بالإرادة على الحقيقة عند أهل السنة. وقال معتزلة بغداد: إنه تعالى لا يوصف بالإرادة على الحقيقة.
فإذا قيل أراد الله كذا فإن كان فعله فمعناه أنه فعل وهو غير ساهٍ ولا مكره عليه، وإن كان فعل غيره فمعناه أنه أمر به. {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} جارٍ مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدرتين ب (أما)، وأن فريق العالمين بأنه الحق وفريق الجاهلين المستهزئين به كلاهما موصوف بالكثرة، وأن العلم بكونه حقاً من باب الهدى، وأن الجهل بحسن مورده من باب الضلالة. وأهل الهدى كثير في أنفسهم وإنما يوصفون بالقلة بالقياس إلى أهل الضلال، ولأن القليل من المهتدين كثير في الحقيقة وإن قلوا في الصورة.
إن الكرام كثير في البلاد وإن ** قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا

والإضلال: خلق فعل الضلال في العبد، والهداية خلق فعل الاهتداء، هذا هو الحقيقة عند أهل السنة، وسياق الآية لبيان أن ما استنكره الجهلة من الكفار واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء مضروباً بها المثل ليس بموضع الاستنكار والاستغراب لأن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى وإدناء المتوهم من المشاهد. فإن كان المتمثل له عظيماً كان المتمثل به كذلك، وإن كان حقيراً كان المتمثل به كذلك، ألا ترى أن الحق لما كان واضحاً جلياً تمثل له بالضياء والنور، وأن الباطل لما كان بضد صفته تمثل له بالظلمة، ولما كانت حال الآلهة التي جعلها الكفار أنداداً لله لا حال أحقر منها وأقل، ولذلك جعل بيت العنكبوت مثلها في الضعف والوهن، وجعلت أقل من الذباب وضربت لها البعوضة؟ فالذي دونها مثلاً لم يستنكر ولم يستبدع ولم يقل للمتمثل استحى من تمثيلها بالبعوضة لأنه مصيب في تمثيله، محق في قوله، سائق للمثل على قضية مضربه، ولبيان أن المؤمنين الذين عادتهم الإنصاف والنظر في الأمور يناظر العقل إذا سمعوا بهذا التمثيل علموا أن الحق، وأن الكفار الذين غلب الجهل على عقولهم إذا سمعوه كابروا وعاندوا وقضوا عليه بالبطلان وقابلوه بالإنكار، وأن ذلك سبب هدى المؤمنين وضلال الفاسقين. والعجب منهم كيف أنكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وخشاش الأرض فقالوا: أجمع من ذرة، وأجرأ من الذباب، وأسمع من قراد، وأضعف من فراشة، وآكل من السوس، وأضعف من البعوضة، وأعز من مخ البعوض، ولكن ديدن المحجوج والمبهوت أن يرضى لفرط الحيرة بدفع الواضح وإنكار اللائح. {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} هو مفعول {يضل} وليس بمنصوب على الاستثناء لأن {يضل} لم يستوف مفعوله. والفسق: الخروج عن القصد. والفاسق في الشريعة: الخارج عن الأمر بارتكاب الكبيرة وهو النازل بين المنزلتين أي بين منزلة المؤمن والكافر عند المعتزلة وسيمر عليك ما يبطله إن شاء الله.
{الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله} النقض: الفسخ وفك التركيب. والعهد: الموثق. والمراد بهؤلاء الناقضين لعهد الله أحبار اليهود المتعنتون أو منافقوهم أو الكفار جميعاً.
وعهد الله ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم، أو أخذ الميثاق عليهم بأنهم إذا بعث إليهم رسول يصدقه الله بمعجزاته صدقوه واتبعوه ولم يكتموا ذكره، أو أخذ الله العهد عليهم أن لا يسفكوا دماءهم ولا يبغي بعضهم على بعض ولا يقطعوا أرحامهم. وقيل: عهد الله إلى خلقه ثلاثة عهود: العهد الأول الذي أخذه على جميع ذرية آدم عليه السلام بأن يقروا بربوبيته وهو قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدم} [الأعراف: 172] الآية، وعهد خص به النبيين أن يبلغوا الرسالة ويقيموا الدين وهو قوله تعالى: {وَإِذَا أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ} [الأحزاب: 7] وعهد خص به العلماء وهو قوله تعالى: {وَإِذَا أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]، {مِن بَعْدِ ميثاقه} أصله من الوثاقة وهي إحكام الشيء، والضمير للعهد وهو ما وثقوا به عهد الله من قبوله وإلزامه أنفسهم، ويجوز أن يكون بمعنى توثقته كما أن الميعاد بمعنى الوعد أو لله تعالى أي من بعد توثقته عليهم و{من} لابتداء الغاية {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} هو قطعهم الأرحام وموالاة المؤمنين، أو قطعهم ما بين الأنبياء من الوصلة والاجتماع على الحق في إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض. والأمر طلب الفعل بقول مخصوص على سبيل الاستعلاء، و{ما} نكرة موصوفة أو بمعنى الذي و{أن يوصل} في موضع جر بدل من الهاء أي بوصله، أو في موضع رفع أي هو أن يوصل {وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض} بقطع السبيل والتعويق عن الإيمان {أولئك} مبتدأ {هُمْ} فصل والخبر {الخاسرون} أي المغبونون حيث استبدلوا النقض بالوفاء والقطع بالوصل والفساد بالصلاح والعقاب بالثواب.

.تفسير الآيات (28- 32):

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} معنى الهمزة التي في {كيف} مثله في قولك: أتكفرون بالله ومعكم وما يصرف عن الكفر ويدعو إلى الإيمان وهو الإنكار والتعجب، ونظيره قولك: أتطير بغير جناح وكيف تطير بغير جناح؟ والواو في {وَكُنتُمْ أمواتا} نطفاً في أصلاب آبائكم للحال و(قد) مضمرة. والأموات جمع ميت كالأقوال جمع قيل، ويقال لعادم الحياة أصلاً ميت أيضاً كقوله تعالى: {بلدة مَّيْتاً} [الفرقان: 49] {فأحياكم} في الأرحام {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء آجالكم {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} للبعث {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تصيرون إلى الجزاء، أو ثم يحييكم في قبوركم ثم إليه ترجعون للنشور. وإنما كان العطف الأول بالفاء والبواقي بثم لأن الإحياء الأول قد تعقب الموت بلا تراخٍ، وأما الموت فقد تراخى عن الحياة والحياة الثانية كذلك تتراخى عن الموت إن أريد النشور، وإن أريد إحياء القبر فمنه يكتسب العلم بتراخيه، والرجوع إلى الجزاء أيضاً متراخٍ عن النشور. وإنما أنكر اجتماع الكفر مع القصة التي ذكرها لأنها مشتملة على آيات بينات تصرفهم على الكفر، ولأنها تشتمل على نعمٍ جسام حقها أن تشكر ولا تكفر.
{هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرض} أي لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم ودينكم. أما الأول فظاهر، وأما الثاني فالنظر فيه وما فيه من العجائب الدالة على صانع قادر حكيم عليم، وما فيه من التذكير بالآخرة لأن ملاذها تذكر ثوابها ومكارهها تذكر عقابها. وقد استدل الكرخي وأبو بكر الرازي والمعتزلة بقوله {خلق لكم} على أن الأشياء التي يصح أن ينتفع بها خلقت مباحة في الأصل. {جَمِيعاً} نصب على الحال من {ما} {ثُمَّ استوى إِلَى السماء} الاستواء: الاعتدال والاستقامة. يقال: استوى العود أي قام واعتدل، ثم قيل: استوى إليه كالسهم المرسل أي قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء} [فصلت: 11]، أي أقبل وعمد إلى خلق السموات بعد ما خلق ما في الأرض من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر. والمراد بالسماء جهات العلو كأنه قيل: ثم استوى إلى فوق. والضمير في {فسوّاهنّ} مبهم يفسره {سَبْعَ سماوات} كقولهم (ربه رجلاً). وقيل: الضمير راجع إلى السماء ولفظها واحد ومعناها الجمع لأنها في معنى الجنس. ومعنى تسويتهن تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور، أو إتمام خلقهن. و{ثم} هنا لبيان فضل خلق السموات على خلق الأرض، ولا يناقض هذا قوله {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} [النازعات: 30] لأن جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء وأما دحوها فمتأخر. وعن الحسن: خلق الله الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها، ثم أصعد الدخان وخلق منها السموات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض فذلك قوله تعالى:
{كَانَتَا رَتْقاً} [الأنبياء: 30]، وهو الالتزاق {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فمن ثم خلقهن خلقاً مستوياً محكماً من غير تفاوت من خلق ما في الأرض على حسب حاجات أهلها ومنافعهم. وهو وأخواته مدني غير ورش، {وَهُوَ} هو وأبو عمرو وعلي، جعلوا الواو كأنها في نفس الكلمة فصار بمنزلة عضد وهم يقولون في عضد عضد بالسكون.
ولما خلق الله تعالى الأرض أسكن فيها الجن وأسكن في السماء الملائكة فأفسدت الجن في الأرض فبعث إليهم طائفة من الملائكة فطردتهم إلى جزائر البحار ورؤوس الجبال وأقاموا مكانهم فأمر نبيه عليه السلام أن يذكر قصتهم فقال:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة} (إذ) نصب بإضمار (اذكر). والملائكة جمع ملأك كالشمائل جمع شمأل وإلحاق التاء لتأنيث الجمع. {إِنّي جَاعِلٌ} أي مصير من جعل الذي له مفعولان وهما {فِي الأرض خَلِيفَةً} وهو من يخلف غيره (فعيلة) بمعنى (فاعلة) وزيدت الهاء للمبالغة والمعنى: خليفة منكم لأنهم كانوا سكان الأرض فخلفهم فيها آدم وذريته. ولم يقل خلائف أو خلفاء لأنه أريد بالخليفة آدم. واستغنى بذكره عن ذكر بنيه كما تستغني بذكر أبي القبيلة في قولك (مضر وهاشم)، أو أريد من يخلفكم أوخلقاً يخلفكم فوحد لذلك، أو خليفة مني لأن آدم كان خليفة الله في أرضه وكذلك كل نبي، قال الله تعالى: {يا دَاوُودُ إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً فِي الأرض} [ص: 26]، وإنما أخبرهم بذلك ليسألوا ذلك السؤال ويجابوا بما أجيبوا به فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم، أو ليعلِّم عباده المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنياً عن المشاورة. {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} تعجب من أن يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية وهو الحكيم الذي لا يجهل، وإنما عرفوا ذلك بإخبار من الله تعالى، أو من جهة اللوح أو قاسوا أحد الثقلين على الآخر. {وَيَسْفِكُ الدماء} أي يصب. والواو في {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ} للحال كما تقول: أتحسن إلى فلان وأنا أحق منه بالإحسان؟ {بِحَمْدِكَ} في موضع الحال أي نسبح حامدين لك ومتلبسين بحمدك كقوله تعالى: {وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر} [المائدة: 61]، أي دخلوا كافرين. {وَنُقَدِّسُ لَكَ} ونطهر أنفسنا لك. وقيل: التسبيح والتقديس تبعيد الله من السوء من سبح في الأرض وقدس فيها إذا ذهب فيها وأبعد. {قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي أعلم من الحكم في ذلك ما هو خفي عليكم يعني يكون فيهم الأنبياء والأولياء والعلماء. و{ما} بمعنى (الذي) وهو مفعول أعلم والعائد محذوف أي ما لا تعلمونه. {إنى} حجازي وأبو عمرو.
{وَعَلَّمَ ءَادَمَ} هو اسم أعجمي وأقرب أمره أن يكون على فاعل كآزو واشتقاقهم آدم من أديم الأرض أو من الأدمة كاشتقاقهم يعقوب من العقب وإدريس من الدرس وإبليس من الإبلاس.
{الأسماء كُلَّهَا} أي أسماء المسميات فحذف المضاف إليه لكونه معلوماً مدلولاً عليه بذكر الأسماء إذ الإسم يدل على المسمى وعوض منه اللام كقوله تعالى: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4]، ولا يصح أن يقدر وعلم آدم مسميات الأسماء على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، لأن التعليم تعلق بالأسماء لا بالمسميات لقوله تعالى: {أنبئوني بأسماء هؤلاء}- و- {أنبئهم بأسمائهم}، ولم يقل (أنبئوني بهؤلاء وأنبئهم بهم). ومعنى تعليمه أسماء المسميات أنه تعالى أراه الأجناس التي خلقها وعلمه أن هذا اسمه فرس وهذا اسمه بعير وهذا اسمه كذا وهذا اسمه كذا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: علمه اسم كل شيء حتى القصعة والمغرفة. {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة} أي عرض المسميات، وإنما ذكر لأن في المسميات العقلاء فغلبهم. وإنما استنبأهم وقد علم عجزهم عن الإنباء على سبيل التبكيت {فَقَالَ أَنبِئُونِي} أخبروني {بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صادقين} في زعمكم أني أستخلف في الأرض مفسدين سفاكين للدماء، وفيه رد عليهم وبيان أن فيمن يستخلفه من الفوائد العلمية التي هي أصول الفوائد كلها ما يستأهلون لأجله أن يستخلفوا. {قَالُواْ سبحانك} تنزيهاً لك أن يخفى عليك شيء أو عن الاعتراض عليك في تدبيرك. وأفادتنا الآية أن علم الأسماء فوق التخلي للعبادة فكيف بعلم الشريعة؟! وانتصابه على المصدر تقديره سبحت الله تسبيحاً {لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} وليس فيه علم الأسماء، و{ما} بمعنى (الذي)، والعلم بمعنى المعلوم أي لا معلوم لنا، إلا الذي علمتنا. {إِنَّكَ أَنتَ العليم} غير المعلم {الحكيم} فيما قضيت وقدرت. والكاف اسم (إن) و{أنت} مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر (إن)، أو {أنت} فصل والخبر {العليم}. و{الحكيم} خبر ثانٍ.